د. علي الجابري : الطفل آلان غريق المتوسط غيّر العالم
حتى الامس القريب كان ضمير الانسانية مخدرا ، لا يشعر بهول المعاناة والالم والمخاطرة التي يمر بها المهاجرون من ديار القتل والدمار في سوريا والعراق وغيرها من مدن الموت المجاني، من أجل بصيص أمل ينقذ أرواحهم واطفالهم الذين فطموا على سماع دوي الانفجارات والقتل على الهوية.
مئات الالاف من اللاجئين الذين ضاقت بهم السبل قرروا خوض البحر المتوسط لعلهم يصلون الى الضفة الاخرى ، حيث الارض الموعودة والوطن البديل . ومن بين هؤلاء الذين غامروا بحياتهم وحياة عوائلهم من أنقذته عناية الله واوصلته الى الضفة الاخرى ، حيث تبدأ معاناة جديدة في التنقل بين بلاد اوروبا الواسعة طمعا في الوصول الى الامل المنشود ..
عانى اللاجئون من شتى اصناف المعاملة القاسية وساعات الانتظار على ابواب دوائر الهجرة للحصول على ورقة طرد من الدولة التي وصلوا اليها ، لتمكنهم من العبور الى دولة أوروبية أخرى ، ولو كان عن طريق التخفي في الغابات وشق الطرقات الوعرة بعيدا عن أنظار حرس الحدود الاوروبي.
حدثنا الكثير من اللاجئين الذين فروا من ويلات بلدانهم بكثير من المآسي التي صادفتهم في الطريق الى بلد اللجوء ، لكنهم يكادون يكونون أسعد حظا من المئات غيرهم الذين ابتلعهم "بحر الموت المتوسط" دون ان يسأل عليهم أحد . فلا حكوماتهم تأبه لموتهم ، ولا ضمير الانسانية يتحرك لانقاذهم .
تشير الارقام الرسمية للامم المتحدة والاتحاد الاوروبي الى غرق اكثر من (2500) شخص ، بينهم الكثير من الاطفال خلال العام الحالي. لكنها لم تكن الا أرقام تتداولها مكاتب المنظمات الدولية ، ولم تحرك ساكنا في ضمير الانسانية الا بقدر ارسال مجموعة زوارق من عدة دول اوروبية لانقاذ بعض الغارقين في حلم الهجرة.
وحده الطفل السوري "آلان" الذي إلتهمته مياه المتوسط مع شقيقه الاكبر ووالدته هو من حرك ضمير العالم وأشعر دعاة الانسانية بالخزي والعار لانهم تسببوا بموت هذا الملاك الذي لا يدري اين قاده مصيره وسط هذا الموج المتلاطم ؟!
ولولا هذه الصور المروعة التي إلتقطتها عدسة مصورة تركية ، لكان هذا الطفل من غيره من مئات الاطفال الذين غرقوا في رحلة اللجوء في عداد المنسيين!!
لكنها إرادة الله ، ان يموت انسان من أجل ان يعيش الاف غيره .
فقد تسببت مأساة هذه العائلة المنكوبة في تحريك الضمير العالمي بأكمله ، وتسبب موته في فتح الحدود التي كانت مغلقة بوجه اللاجئين في اوروبا ، وصار الذين يتخفون عن أعين السلطات في دول الشرق الاوروبي القاسي يظهرون في العلن ويطالبون في الوصول الى جنة احلامهم ( ديار ميركل العظيمة )؟!
وهذه ليست المرة الاولى التي تتسبب فيها صورة في تغيير حياة العالم ، لكنها كانت درسا لدعاة الانسانية ان يكونوا أكثر قربا من معاناة الاخرين. وكانت درسا للشعوب الاوروبية التي كانت تنمو بين جنباتها بذرة التطرف ومحاربة المهاجرين واللاجئين.
موت الطفل "آلان" حرك الشعوب الاوروبية بطريقة أشعرها بالذنب والعار وضرورة التحرك لانقاذ الاف الاطفال الذين ينتظرهم مصير "آلان" نفسه.
في ألمانيا التي انطلقت منها منظمة "بيغيدا" المعادية للمهاجرين ، والبلد الاكبر في تسجيل حالات الاعتداء على مساكن الفارين من الموت تغير الحال . حتى قيل ان ألمانيا بإكملها تتغير وليس مستشارتها "ميركل" فقط ..
أصبح الالمان يتسابقون في تقديم المساعدات الانسانية من ملابس وغذاء ودواء للقادمين من خلف البحار ، يستقبلونهم عند ابواب محطات القطارات ، ويأخدونهم الى بيوتهم للراحة قبل ان ينتقلوا للاماكن المخصصة للاجئين.
وكذلك الحال في بقية شعوب اوروبا التي بدأت تضغط على حكوماتها لتحمل الواجب الانساني لانقاذ ضحايا الحروب في الشرق الاوسط.
صحوة ضمير دفعت رئيس وزراء فنلندا ان يتبرع ببيته لايواء اللاجئين ، وحركت ضمير الاف البريطانيين الذين أعلنوا رغبتهم في إستقبال العائلات السورية الهاربة من الموت والقتل.
كم هو عظيم موتك يا "آلان" ، لقد حركت ضمير العالم وشعوب الارض بإكملها ، وكان موتك سببا في إنقاذ ابناء بلدك وغيرهم من المضطهدين والهاربين من ارض الدمار والموت ليفتح لهم أبوابا من الامل.
كم هو عظيم ان يموت الانسان من أجل حياة الاخرين . فكيف اذا كان طفلا تستقبله السماء بلا ذنوب ولا حساب.
* كاتب ورئيس إتحاد الصحفيين العرب في السويد