آراء

بعد أزمة التقاعد في فرنسا…لهذا نجح ماكرون رغم الاحتجاجات والنقابات

اهتزت فرنسا منذ أسابيع على وقع قرار حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون، رفع سن التقاعد الرسمي إلى 64 عاماً، فخرجت المظاهرات والاحتجاجات التي دعت لها النقابات ومنظمات أخرى، وعلت لهجة المعارضة اليمينية المتطرفة واليسارية المتشددة في البرلمان ضد الرئيس ماكرون ما أعطى الانطباع بتخبط الرئيس وحكومته في أزمة عميقة يمكن أن تهدد مستقبله السياسي.

ولكن الرئيس الفرنسي الشاب، أصغر رئيس في تاريخ البلاد على الإطلاق، أثبت على امتداد ولايته الأولى، بين 2017و2022، وفي الأشهر القليلة الماضية بعد فوزه بالرئاسة للمرة الثانية في مايو (أيار) الماضي، أنه أكثر حنكة، وأقدر على تمرير القرارات الصعبة من غيره من السياسيين الفرنسيين والأوروبيين عموماً، من جهة أولى، وأكثر تصميماً على القطع مع النموذج الاجتماعي المهترئ في فرنسا والذي لا يمكنه الاستمرار إذا لم يشهد إصلاحات عميقة، وجذرية.

ذكاء

في فرنسا وفي الديمقراطيات الغربية عموماً، يختلف الفرقاء والمتنافسون بحدة وعنف أحياناً في الحملات الانتخابية، التي تبلغ في بعض الأوقات مستويات غير مسبوقة من التشنج، والتشدد، بسبب المطالبة بالإصلاح والإصرار عليه مهما كان الثمن، وعلى امتداد العقود الأربعة الماضية، منذ انتخابات 1981 تقريباً، كان القاسم المشترك الوحيد بين المرشحين للرئاسة من ميتران إلى شيراك، ومن بالادور، إلى جوسبان، ومن ساركوزي إلى هولاند، الإصلاح و لا شيء غير الإصلاح. ولكن بعد الانتخابات واختيار الرئيس الجديد، لم تشهد فرنسا أي إصلاح يُذكر، باستثناء خفض مدة الرئاسة من 7 إلى 5 أعوام، على يد جاك شيراك، فيما خلت الحصيلة من أي تغيير كبير يُذكر.

وعلى عكس الرؤساء السابقين، الذين كانوا يخشون دفع ضريبة أي إجراء غير شعبي، فتراجعوا عن وعودهم ومشاريعهم السابقة لتوليهم المنصب، أثبت إيمانويل ماكرون أنه أكثر جرأة وقدرة على المناورة من سابقيه، فلم يتردد في اتخاذ “قرارات مؤلمة” كثيرة، رغم علمه أنه سيواجه معارضة شرسة سياسياً واجتماعياً، من الأحزاب المعارضة، ومن النقابات ومن الإعلام أحياناً.
كان ماكرون أذكى من غيره من المسؤولين، لأنه لم يؤجل القرارات الصعبة إلى آخر ولايته كما فعل عدد من القادة الآخرين الذين سبقوه، ولم يقبر وعوده الانتخابية مثل رفع سن التقاعد الذي كان أحد محاور حملتيه الانتخابيتين الأولى والثانية، وعلى عكس أوروبيين آخرين أكثر حنكة وتجربة، مثل المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر، بادر ماكرون إلى إقرار الإصلاح في بداية ولايته الرئاسية الثانية، ومضى في قراره حتى النهاية متجاوزاً الأحزاب، والنقابات، والبرلمان المتردد بفضل المادة الدستورية 49-3 التي تتيح له إقرار أي قانون دون موافقة المجلس في إجراء استثنائي، ولكنه دستوري وقانوني، لا يمكن الطعن فيه أو إسقاطه.

توقيت
ولم يتوقف ذكاء ماكرون السياسي على الإصرار على القرار، ولكن في توقيت اتخاذه، فعلى عكس شرودر في ألمانيا الذي اضطر في النهاية إلى إقرار إصلاحات واسعة وغير شعبية، في الأشهر الأخيرة من ولايته فدفع الثمن على شكل خسارة انتخابية مدوية لصالح المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي خلفته في المنصب واستمرت فيه أكثر من 15 عاماً، بفضل قوة وأداء الاقتصاد الألماني الذي انتعش بعد إصلاحات شرودر، إذ بادر ماكرون إلى إدراج مشروع إصلاح أنظمة التقاعد بعد فترة قصيرة من فوزه بالرئاسة، ما يسمح له لاحقاً بـ4 أعوام من الهدوء، وربما من التفاخر بجني ثمار ما أقدم عليه من إصلاح عجزت عنه الطبقة السياسية في فرنسا منذ عقود.
إن ماكرون بقراره يعيد تجربة الإصلاحات المالية التي أقرها في بداية حُكمه، والتي فجر ت احتجاجات السترات الصفراء، في 2019، التي عطلت البلاد، وشلت المرافق الاقتصادية، وجعلت المحللين والمتابعين يتوقعون سقوطه، أو استقالته، أو فشله في الفوز في الاستحقاق الرئاسي في 2022، وهو ما لم يحصل، لأنه اختار الوقت المناسب لمباشرة الإصلاحات المطلوبة وقتها، ما ترك له الوقت والفرصة لامتصاص غضب الشارع، والبرهنة على نجاح توجهه لاحقاً، رغم الأزمات الكثيرة التي ميزت رئاسته الأولى كان أبرزها استفحال أزمة كورونا، وهو ما عكسه تحسن أداء الاقتصاد الفرنسي عموماً، وارتفاع نسبة النمو، وتراجع المديونية العامة للدولة.

كارثة مؤجلة
وفي فرنسا تعد مسألة المديونية والعجز المالي “كارثة وطنية” مؤجلة منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، بعد ما يُعرف في  بأعوام “المجد الثلاثين” التي امتدت من نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945 إلى 1973، تاريخ الصدمة النفطية الأولى، حيث عاشت فرنسا سنوات صعبة قاسية، بسبب الارتفاع الصاروخي للمديونية وتضخمها، خاصةً بسبب المساعدات والنفقات الاجتماعية، وفي طليعتها تمويل أنظمة التقاعد.
ومشكلة نظام التقاعد الحقيقية في فرنسا، ليست في السن، الذي ارتفع رغم كل شيء من 55، إلى 60، ثم إلى 62 عاماً، في العقدين الماضيين، قبل أن يرفعه ماكرون إلى 64 عاماً، ولكن في اختلاف أنظمة وسن التقاعد، ذلك أن فرنسا وبحكم سطوة النقابات التي كان أغلبها موالياً للحزب الشيوعي الفرنسي قبل الحرب العالمية الثانية والاحتلال الألماني للبلاد، كانت خاضعة اجتماعياً على الأقل لسطوة الشيوعيين الذين كانوا يهددون نظام الرئيس الراحل شارل ديغول، وفرضوا عليه أنظمة اجتماعية “متطورة”، ولكنها مكلفة بكل المقاييس.

صحيح أن أنظمة التقاعد والرعاية والتأمين في فرنسا، كانت من المكاسب الاجتماعية المهمة التي تميزت بها البلاد بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن كلفتها باهظة جداً، وهو ما تأكد أثناء توالي الأزمات المالية والاقتصادية بعد انقضاء سنوات الرخاء،  في ظل سخاء وتعدد أنظمة التقاعد. فرفع السن إلى 64 عاماً اليوم لا يعني المرور من 62 إلى 64، بل من  54 عاماً أحياناً وحتى أقل من ذلك بكثير في عدد كثير من القطاعات، إلى 64 عاماً، ما يعني أن قرار ماكرون ليس ترفيعاً بقدر ما هو توحيد لسن التقاعد، ذلك أن فرنسا هي الدولة الوحيدة تقريباً التي توفر أكثر من 10 أنظمة تقاعد متفاوتة بشكل مثير للاستغراب، خاصة في القطاعات المهنية التي تسمى “مضنية”  مثل قيادة القطارات، أو الحافلات، أو المهن في الصناعات الثقيلة، أو البناء، أو عمال الموانئ، و غيرها من المهام التي كانت “مُضنية” أو منهكة في القرن الماضي ربما، ولكنها لم تعد كذلك اليوم، إذ لا علاقة لسائق قطار فرنسي اليوم، بسائق القطار الذي كان يعمل بالبخار، في ظل التكنولوجيا والتطور الذي يسمح بقيادة القطارات عن بعد مثلاً.

نهاية الرفاه
واليوم يمكن استغرا تمتع بعض العاملين أو الموظفين  في فرنسا، براتب تقاعد كامل في الخمسين أو الرابعة والخمسين من العمر، وهو عمر يُعد اليوم بفضل تطور المعيشة والحياة، وتحسن ظروف العمل، وارتفاع مؤمل الحياة، شباباً ثانياً أو متأخراً، ما يسمح للمتقاعد مثلاً بالحصول على راتب مجزٍ، مع احتمال تفرغه لعمل أو وظيفة أخرى أيضاً.

ولكن في ظل العجز المالي المتفاقم والهائل، يصعب الاستمرار في العمل بهذا النموذج القديم الذي فرضته التوازنات السياسية والاجتماعية، في ظل انهيار الحزب الشيوعي الفرنسي الذي يكاد يختفي من المشهد السياسي، وتراجع قدرة النقابات والأحزاب المعارضة على الحشد لفترة طويلة أولاً، ولثقة قطاعات واسعة من مؤسسات اقتصادية ومالية واجتماعية فرنسية ودولية، في سلامة توجه ماكرون ثانياً، وضرورة التخلي عن “نظام الرفاه” الاجتماعي في أوروبا والعالم وليس في فرنسا وحدها، وهو التوجه الذي تعيش على وقعه اليوم كل دول العالم تقريباً.
ولكن رغم الإيمان بضرورة التغيير والإصلاح، رفضت قطاعات عدة في فرنسا إصلاح التقاعد، لأسباب مختلفة، فاليمين المتطرف ممثلاً في حزب مارين لوبان، الذي يملك ثاني أكبر كلتة في البرلمان بالتوازي مع اليسار المتشدد، يرفض إصلاح النظام  بتوحيده ورفع السن إلى 64 عاماً، رغم أن لوبان كانت تدعو في حملتها الرئاسية الفاشلة في 2022 لرفعه إلى…67 عاماً، لأنه لا يخدم “الطبقات الشعبية الكادحة” ويُنهك “الفرنسيين المنهكين أساساً بالأزمة الاقتصادية، وتضخم الأسعار”، لتعد زعيمة اليمين المتطرف بإلغاء القانون الجديد إذا فازت بالانتخابات المقبلة في 2027.

أما اليسار المتشدد فيرفض بدوره القانون الجديد، لأنه “ضد العمال والطبقات الشعبية، وضد النساء” وهي الفئات الأكثر تضرراً لأنها معرضة أكثر للبطالة، والتأخر في التوظيف، وصعوبة الحصول على فرص عمل ، ما يعني أنه لا يمكنها الحصول على تقاعد مناسب عند بلوغها الـ64، لأن احتسابه يكون على أساس مدة الانخراط في أنظمة الضمان الاجتماعي المختلفة، أي اقتطاع نسب من الراتب الأساسي لتمويل التقاعد من الدفع المنتظم، طيلة 30 عاماً، أي 30 ضارب 4 فصول، أي 120 ربعاً فصلياً، وهو ما لم يعد متوفراً اليوم في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية الجديدة.
ورغم كل الاعتراضات والمناورات، مضى الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي لن يحق الترشح للرئاسة الفرنسية في 2027، في مشروع الإصلاح، لإيمانه بجدواه من جهة، ولثقته في نجاحه بعد تراجع الاحتجاجات وحدتها، بسبب الإنهاك، والتطورات السياسية والاجتماعية، وطي صفحة الإضرابات والمظاهرات كما حصل مع السترات الصفراء، من جهة ثانية، ليُساهم في الحد من نزيف التداين العام ، ويُمهد الطريق لخليفته في المنصب الذي يُرجح أن يكون رئيس حكومته السابق إدوارد فيليب، رئيس تيار “آفاق” الإصلاحي، ضمن تحالف النهضة المؤيد للرئيس إيمانويل ماكرون.

24

زر الذهاب إلى الأعلى