«مذبحة 13 نوفمبر» في باريس… التأمت الجروح وبقيت كدمات
باريس: ميشال أبو نجم
كان مساء يوم جمعة رائعاً. إنه بداية العطلة الأسبوعية. باريس تعيش حالة إثارة استثنائية. فريق كرة القدم الوطني يتحضر لمواجهة نظيره الألماني في الملعب الكبير القائم في محلة «سين سان دونيس» الواقعة على مدخل العاصمة الشمالي. ثمانون ألف مشجع كانوا يتدفقون أفواجاً على الملعب يتقدمهم رئيس الجمهورية فرنسوا هولند في حين وصل وزير الخارجية الألماني فرانك فولتر – شتاينماير لتشجيع فريقه. أرصفة المقاهي تعج بالزبائن، خصوصاً تلك التي كانت ستنقل المباراة على شاشات كبيرة. المطاعم، كبيرها وصغيرها على حد سواء، كعادتها مساء الجمعة، عندما يتيح الطقس ذلك، تتمدد إلى الأرصفة. وذاك المساء، كانت السماء صافية والحرارة معتدلة؛ ما شجع الفرنسيين والسياح للاستفادة ربما من أواخر الفرص لريادة المطاعم وللتنزه في شوارع وجادات باريس الجميلة. وفي الدائرة العاشرة من باريس، حيث يقع مسرح وملهى الباتاكلان عند الرقم 50 من بولفار فولتير، كان الزبائن وأكثريتهم الساحقة من الشباب، يقفون في صفوف طويلة للدخول إلى هذا المعلم الفني الاستثنائي من أجل سهرة موسيقية أميركية. المبنى فريد من نوعه في باريس؛ إذ بُني في العام 1864، زمن حكم الإمبراطور نابوليون الثالث على طراز «الباغود» الصينية وكان يسمى لسنوات «المقهى الصيني الكبير».
باختصار، ذاك الـ13 نوفمبر (تشرين الثاني) من العام 2015 كان يراد له أن يحمل الفرح والسعادة للناس. لا أزمات اجتماعية أو اقتصادية حادة ولا حروب على أبواب فرنسا أو في جوارها القريب، كما الحال اليوم. النقطة السوداء الوحيدة في هذا المشهد الاستثنائي كان اسمها الحرب في سوريا والعراق وصعود تنظيم «داعش» الذي أقام «خلافة» مزعومة على أجزاء من الأراضي السورية والعراقية. والأهم من ذلك بالنسبة لباريس أمران: الأول، تدفق مئات الفرنسيين على ميادين القتال للانخراط في صفوف «داعش» الناشط على وسائل التواصل الاجتماعي لاجتذاب المقاتلين. والآخر، التهديدات التي يطلقها بين الحين والآخر بحق البلدان «المارقة»، ومنها فرنسا. لكن لا أحد في تلك الليلة، بما في ذلك الأجهزة الأمنية الفرنسية، كان يدور في خلده أن مأساة كبيرة كانت قيد التحضير وأن ثلاث فرق إرهابية موجودة داخل العاصمة تتأهب للقيام بأكبر عملية قتل جماعية عرفتها فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. صحيح أن باريس عرفت هجمات إرهابية سابقة في العام نفسه استهدفت صحيفة «شارلي إيبدو» ومتجراً يهودياً، إلا أنها كانت محدودة الأهداف ومن فعل عدد قليل من الإرهابيين ولا تقارن بشيء مما كان يحضّر لتلك الليلة التي شهدت عمليات كوماندوس حقيقية من مجموعات ثلاث بالغة التنظيم وتأتمر بما يأتيها من سوريا ومن مدينة الرقة تحديداً.
ثلاث مجموعات كوماندوس
كانت هجمات تلك الليلة المشؤومة محكمة التنظيم. ثلاث مجموعات انطلقت من ثلاثة أحياء مختلفة وكانت أهدافها ثلاثة: الملعب الكبير، مقاهٍ ومطاعم في الدائرتين العاشرة والحادية عشرة، وملهى الباتاكلان حيث تواجد 1500 شخص للاستمتاع بالسهرة الموسيقية التي كانت تحييها فرقة «أيغل أوف ديث ميتال» الأميركية. الهجمات جاءت متزامنة بدءاً من الساعة التاسعة وعشرين دقيقة قرب الملعب الكبير، حيث حصلت ثلاث تفجيرات انتحارية. وحاول أحد الإرهابيين الثلاثة أن يجتاز الحاجز الخارجي إلا أن أحد الحراس نهره لأنه لم يكن يحمل بطاقة دخول؛ فما كان منه إلا أن ابتعد قليلاً وفجّر نفسه ليتبعه بعد دقائق قليلة تفجيران انتحاريان إضافيان. ولحسن الحظ، فإن «الداعشيين» الثلاثة لم يبدأوا عمليتهم إلا بعد أن كانت المباراة قد انطلقت، فإن التفجيرات الثلاثة لم توقِع سوى قتيل واحد وبضعة جرحى. وكانت هذه الأعمال الانتحارية الأولى من نوعها التي تعرفها فرنسا. وبعد التفجير الأول، عمد رجال الأمن والحرس الرئاسي إلى إخراج هولند من الملعب الكبير بشكل آمن في حين استمرت المباراة بحيث لم يعلم الجمهور شيئاً مما يجري في الخارج. وبحسب خبراء، فإن مقتلة كانت ستحصل داخل الملعب لو نجح أحد الإرهابيين بالدخول إليه وقام بتفجير نفسه بين الجمهور.
في الوقت عينه، نزل ثلاثة إرهابيين مدججين بالسلاح من إحدى السيارات الثلاث المسـتأجرة في بروكسل لهذا الغرض في الدائرة العاشرة. وباشروا فوراً بإطلاق النار على رواد المقاهي والمطاعم، فاستهدفوا تباعاً مطعم «لو بوتي كومبودج» ثم «لو كاريون» ثم «كافيه بون بيير» فـ«كوزا نوسترا»، مستكملين «غزوتهم» القاتلة باتجاه «لو كونتوار دو فولتير» لتنتهي بهم هذه الجولة أمام مقهى «لا بيل ايكيب» في الدائرة الـ11، حيث قام أحد الثلاثة بتفجير نفسه أمام المطعم المذكور بينما لاذ اثنان من المنفذين بالفرار بينهم المسؤول «الميداني» عبد الحميد أبا عود، وهو حامل للجنسيتين المغربية والبلجيكية. والمحصلة، إضافة إلى حالة الخوف والهلع والبكاء والصريخ والهروب من الموت التي اجتاحت هذه الأحياء، كانت 39 قتيلاً و32 جريحاً.
بيد أن رعب الشوارع لا يقاس بتاتاً بما حصل داخل ملهى «باتاكلان». فمنذ لحظة نزول القتلة الثلاثة من السيارة التي أقلتهم، بدأوا بإطلاق النار على الأشخاص والحرس خارج الملهى. ولدى ولوجهم إلى الداخل، باشروا بإمطار الحضور بوابل من الرصاص دون تمييز مع رغبة واضحة بالقضاء على أكبر عدد ممكن من الناس. ولأنهم كانوا يتخوفون من تدخل الشرطة ورجال الأمن، أو من استهدافهم بالرصاص من الخارج، فقد سدّوا المدخل والنوافذ بمجموعة من الحاضرين. وطيلة دقائق لا تنتهي، واصل الثلاثة عملية القتل الجماعي التي لم تنته إلا في الساعة الواحدة إلا دقيقتين من يوم السبت بعد أن نجح رجال الأمن في الوصول إلى الطابق الأول، حيث احتجز إرهابيان عشرات الرهائن لحماية نفسيهما من احتمال القضاء عليهما. وكان الإرهابي الثالث قد قُتل على أيدي رجل أمن في الدقائق العشر الأولى، إلا أن وقوعه أدى إلى انفجار الحزام الناسف الذي كان يحمله. وجاءت المحصلة ثقيلة للغاية؛ إذ قتل 90 شخصاً وأصيب العشرات بجروح، منهم 90 شخصاً حالتهم خطرة. وكانت المحصلة النهائية الجماعية 131 قتيلاً و300 جريح.
حالة الطوارئ
إزاء هذه الضربة التي حلّت بفرنسا والخوف الذي ألمّ بالمواطنين، سارعت حكومة فرنسوا هولند، في اليوم التالي، إلى إعلان حالة الطوارئ على كامل الأراضي الفرنسية وهي الأولى منذ المحاولة الانقلابية ضد الحكومة انطلاقاً من الجزائر في العام 1958، وإلى تشديد الرقابة على الحدود وإنزال وحدات من الجيش ورفع حالة التأهب الأمني… والتخوف الكبير كان توقع وجود مجموعات إرهابية أخرى على الأراضي الفرنسية، في حين الهمّ المباشر وضع اليد على الإرهابيين اللذين نجحا في الفرار واللذين قضي عليهما في ضاحية سان دوني بعد ثلاثة أيام مختبئين في شقة استؤجرت لصالحهما. ومن كل أفراد الكوماندوس المولج تنفيذ العمليات وليس توفير الدعم اللوجستي، لم يبق على قيد الحياة إلا صلاح عبد السلام الذي نجح في الفرار إلى بلجيكا ولم يقبض عليه إلا بعد ستة أشهر. وفي محاكمة دامت عشرة أشهر، كان عبد السلام الوحيد الذي شارك مباشرة في العملية وكان دوره تفجير حزامه الناسف الذي رماه لحظة هروبه من ساحة العمليات وزعم لاحقاً أنه امتنع عن التنفيذ لرفضه قتل مدنيين. إلا أن تقرير الادعاء أفاد بأن حزام عبد السلام لم ينفجر. وفي نهاية يونيو (حزيران) الماضي، صدر بحقه حكم بالسجن المؤبد غير قابل للتعديل في حين تفاوتت أحكام الآخرين الذين لعبوا أدواراً لوجيستية متنوعة بين عامين إلى ثلاثين عاماً من السجن. وبُرّئ شخص واحد من التهم الموجهة إليه.
كان من الطبيعي أن تثير موجة القتل الجماعي موجة من التعاطف مع فرنسا عبر العالم. إلا أنها، بالمقابل، وضعت المسلمين في قفص الاتهام باعتبار أن القتلة زعموا زيفاً أنهم يدافعون عن الإسلام. وسارعت الحكومة إلى التنبيه من مخاطر الانقسامات وشددت، بالانسجام مع المسؤولين عن مسلمي فرنسا، على أن هؤلاء هم أولى ضحايا الإرهاب. بيد أن هذه المساعي لم تكن كافية وسعى اليمين المتطرف وبعض الأصوات الرديفة إلى استغلال المأساة للتنديد بضعف الحكومة وباستحالة تكيّف المسلمين مع قيم الجمهورية، إلى غير ذلك من المزاعم العنصرية التي وجدت في العمليات الإرهابية وقودا يغذي آيديولوجيتها. وتبع ذلك استصدار مجموعة من القوانين التي أريد منها محاربة التطرف والأصولية وما سمي لاحقاً «الانفصالية الإسلاموية».
زواج صلاح عبد السلام
اليوم، تمر سبع سنوات على تلك الليلة المشؤومة، إلا أن مأساة 13 نوفمبر 2015 ما زالت في أذهان الناس، وخصوصاً في أذهان أقارب الضحايا الذين قُتلوا والجرحى الذين أصيبوا. وجاءت المحاكمة التي دامت عشرة أشهر لتنكأ الجراح مجدداً وتعيد إلى الذاكرة الصور المرعبة التي حُفرت في أذهان الناس. وخلال ساعات طويلة، استمعت المحكمة إلى شهادات الضحايا وأقربائهم واستمعت أيضاً للمتهمين وعلى رأسهم صلاح عبد السلام لفهم ما حصل. وتراوحت ردود الأفعال على المحاكمة التي شملت عشرين شخصاً بينهم ستة غيابياً (أكثريتهم ممن قُتل في المعارك في سوريا والعراق) بين الإحباط والشعور بأن العدالة أخذت مجراها. وآخر ما استجد الأسبوع الماضي خبر الزواج الديني لصلاح عبد السلام وهو في السجن، وقد تم عبر الهاتف وقد اختارت عائلته المقيمة في بلجيكا عروسه وهي غير خطيبته التي انفصل عنها قبل أيام قليلة على عمليات باريس. ووفق الحكم النافذ بحقه، فإن عبد السلام لن يخرج من السجن أبداً طيلة حياته.
لا تحب الطبيعة الفراغ. ولأن هذه سُنة الكون، فقد استعادت الحياة نبضها منذ زمن بعيد في الأحياء والأماكن التي كانت مسرحاً للمجزرة. فالتحدي الأكبر كان عنوانه استمرار الدورة الطبيعية والتغلب على الخوف ورفض الخضوع للتهديدات الإرهابية. ولذا؛ بعد مرور فترة زمنية قليلة على أحداث 13 نوفمبر، وبعد انتهاء التحقيقات الأمنية، أعادت المقاهي والمطاعم والحانات فتح أبوابها أمام الزبائن بعد إصلاح الأضرار والتغلب على الصدمة. أما ملهى «باتاكلان» فله قصة أخرى. فقد أكد مديره جول فروتاس سابقاً، أن الإدارة قررت إصلاح الأضرار الكبيرة التي حلّت بالملهى وإعادة ترميمه ليعود كما كان تماماً دون أي تغيير. وقد استغرقت هذه العملية عاماً كاملاً وأعيد فتحه في 12 نوفمبر عام 2016. وسعت «الشرق الأوسط» للقاء مدير «باتاكلان» أو أحد مسؤوليه. إلا أن إدارته ردت الطلب بحجة أن ما أرادت قوله بخصوص العملية الإرهابية التي استهدفت الملهى وزبائنه وتبعاتها قد قيل ولا شيء جديد تضيفه. ويبين موقع الملهى على موقع الإنترنت أن برنامج أنشطته الفنية ممتلئ تماماً. لكن الملاحظ أن لا نشاط مقرراً ليوم 13 نوفمبر في حين الأيام اللاحقة وحتى للعام 2023 تضج بالحفلات الموسيقية والرقص والمحاضرات وعروض الأزياء…
وفي الجولة الموسعة التي قامت بها «الشرق الأوسط»، عرجت على ملهى «باتاكلان» المطل تماماً على بولفار فولتير. وبعكس المؤسسات الأخرى، فقد كان لافتاً قلة زبائن المقهى والمطعم اللذين يشكلان جزءاً من الملهى، وفي دردشة مع كاترين، إحدى الزبونات التي كانت خارجة من المقهى مع صديقة لها، قالت، إنها «نسيت تماماً» أن «باتاكلان» قد تعرض لعملية إرهابية، علماً بأنها تقيم في شقة لا تبعد كثيراً عن الموقع وأنها اعتادت منذ سنوات أن تجلس في المقهى لأنه «هادئ، له ديكور جميل، وخدمته لطيفة».
لا تبعد المقاهي والمطاعم التي شهدت دراما العمليات الإرهابية كثيراً عن ساحة «لا ريبوبليك» التي ضاقت، في نوفمبر 2015، بباقات الورد وكلمات التضامن وأعلام الدول المساندة الموضوعة عند أسفل تمثال «ماريان» الذي يمثّل الجمهورية الفرنسية. وقريباً منها، تمر «قناة سان مارتين» التي تسبغ على الأحياء المطلة عليها مسحة من الجمال والهدوء. وعند الرقم 167 من «رصيف فالمي» في الدائرة العاشرة يقع مطعم «لو كاريون» الذي استهدفه الإرهابيون وليس بعيداً عنه مطعم «لو بوتي كومبودج». ويروي فانسان، أحد مسؤولي المطعم الكابوس الذي عاشه في تلك الليلة المشؤومة ويؤكد أن حظه الأكبر أن الإرهابيين اكتفوا بإطلاق النار على الزبائن الذين كانوا خارج المطعم ولم يدلفوا إلى داخله. ويضيف «كانوا يحملون رشاشات كلاشينكوف والكثير من الطلقات ويبدو أنهم كانوا يريدون إحداث مجزرة أكبر. من استطاع الهرب لم يتردد للحظة. لكن آخرين استبد بهم الرعب ولم يجدوا الشجاعة فبقوا مسمرين في أماكنهم أو انبطحوا تحت الطاولات». ويضيف فنسان «إنه مشهد لا يمكن أن أنساه. أحياناً استفيق في الليل بسببه ولكن ذلك لا يمنعني من أن آتي كل يوم إلى مطعمي وكأن شيئاً لم يحصل». اليوم، المقهى كان ممتلئاً والموسيقى تصدح عالياً والزبائن يتسامرون. الستار أسدل. ولكن ما بين لو كاريون و«لو بوتي كمبودج» سقط 13 قتيلاً والكثير من الجرحى.
ليس بعيداً من هناك، يقع مطعم ومقهى «لا بون بيير» في شارع «لو تومبل». وعلى بعد خطوات منه المطعم الإيطالي «كوزا نوسترا» الذي أغلق أبوابه. روايات الرعب تتكرر. الكلمات نفسها والمشاعر هي هي. ولكن ما يتغير ردات الفعل بين من نجح في قلب الصفحة ولا يريد أن يتذكر ومن يعتبر أن تكرار الرواية ضروري حتى لا ينسى.
ككل عام، تعد بلدية باريس تجمعات متعددة لتبقى ذكرى أكبر مجزرة عرفتها العاصمة حية في الأذهان ولتكريم ذكرى الضحايا الذين قضوا بفعل الإرهاب الأعمى.
aawsat