آراء

د. عبدالرزاق محمد الدليمي: دولة الظلام مستمرة في العراق

لم تتوقف ثورة واحتجاجات و تظاهرات الشعب العراقي منذ احتلال بلدهم قبل 19 عاما ضد الاوضاع المزرية والفساد لم تحقق أي نتائج تذكر، لاسيما وان دولة الظلام في العراق هي التي تقود وتوجه معظم مؤسسات الدولة دون ان يكون للاشخاص الذين تم جلبهم لحكم العراق أي قدرة على الخروج عن الاجندات المرسومة لهم واتخاذ القرار المهم، ناهيك عن التغيير، وهم اشخاص منزوعي الارادة، فهم ليسوا اكثر من مجموعة من الدمى البشعة تستخدم لاخافة الناس لا أكثر، وضعفها واضح من خلال تذمرها من الاوضاع ورفضها في تنفيذ الاصلاحات المطلوبة، وهي لا تعتقد بانها سبب في الازمة.، وغالبا ماتستخدم نظرية المؤامرة لتبرير اخفاقاتها ومثل اي دمية تكون مرعية محمية يصعب المساس بها، لذا يكون افراد هذه الطبقة محصنون ويصعب المساس بهم، الافي حالة القوة الاقوى.

رُسمت في العراق ومنذ العام 2003 قواعدُ للعملية السياسية لا يمكن لمن يشغل منصباً عالٍ في الدولة تجاهلها أو المساس بها، ويمكن استخدام وصف دولة الظلام في هذا السياق، والتي تتجسد بجماعات سياسية ومسلحة ودينية لها امتداداتها الإقليمية وتفاهماتها الدولية، وهي من يتحكم بمفاصل السلطات في العراق وترسم خارطة طريق الحكومة، وأي محاولة لتغيير تلك القواعد ستواجه بالعنف وبقوة السلاح، كون من يقودون هذه الدولة ينظرون إلى ما تحقق في العراق من مصالحهم الفريدة بوصفها مكتسبات استراتيجية لا يمكن التنازل عنها، وواحدة من تلك المكتسبات هي تولي ألاحزاب الإسلاموية الشيعية السلطة في العراق وهذا يفسر لنا بوضوح كيف ان هذه الاحزاب ترفض حتى ماسبق ان اقرته بشكل غير اخلاقي مما يسمى باللعبة الديمقراطية لانها في هذه المرة جاءت لغير مصلحتهم لان همهم ليس العراق ولا شعبه بل همهم ان يستمروا بحلب خيراته وسحق ابنائه. 

يمكن وصف الظروف التي خلقوها بعد مسرحية الانتخابات الاخيرة التي مالت نتائجها ظاهريا لكفة مقتدى الصدر بأنها تشبه الـصاعقة، فبعد التخلخل السياسي والأمني والإقتصادي والإجتماعي الذي نتج عن ثورة تشرين 2019، حاولت دولة الظلام أن تأتي برئيس وزراء من خارج سلطة القوى السياسية التقليدية التي تحكمت بالعملية السياسية في عراق ما بعد 2003، ليكون على رأس سلطة مؤقتة لتتحمل إرث الفشل في بناء وإدارة الدولة، وتكون تلك السلطة في ذات الوقت مقيدةً بقواعد اللعبة السياسية وممارساتها التي لا يُسمح بتغييرها أو القفز عليها بشكل أو بآخر. 

 إنبرت المنصات الدعائية والجحوش الالكترونية التابعة لمؤسسات دولة الظلام العميقة إلى وصف مرحلة حكومة الكاظمي على أنها اكبر فشل سياسي وأمني واقتصادي بامتياز، ولا تزال تهاجم كل خطوة تتخذها حكومة الكاظمي بأنها تؤسس للمزيد من التدهور، ونفت أن يكون لهذه الحكومة قرار سليم فيه مصلحة للشعب ومؤسساته، رغم ان، حكومة الكاظمي ورثت دولة بخزينة خاوية بالتزامن مع انهيار أسعار النفط، وتسلمت وضعاً أمنيا متردياً بفصائل مسلحة لها عمقها العقائدي، تسعى لمصادرة القرار الأمني في ظل عجز واضح من الحكومة عن إيقاف مساعيها، كما أن الحكومة جاءت لمعالجة كارثة صحية بسبب تفشي جائحة كوفيد 19، وقد ورثت نظاماً صحياً متردياً وفاسداً، لم يستطع مسؤولوه بناء أي مستشفى أو مركز صحي. 

كانت من الأولويات (المعلنة) لحكومة الكاظمي هي الحد من مستوى العنف وحصر السلاح بيد الدولة، والتحقيق في أحداث تظاهرات تشرين التي راح ضحيتها المئات من الضحايا فضلاً عن حمايتهم، ولكن الواقع يثبت أن الأمر أشد صعوبة من تضمين هذه الملفات المعقدة في برنامج حكومي، وهذه القضايا مرتبطة بأطراف سياسية-مسلحة لها وجود وزاري ونيابي، وهم متورطين بالعنف المسلح والخطف والإرهاب ضد المتظاهرين عبر أجنحتهم المسلحة، الأمر الذي يعني إنهياراً في المعادلة السياسية إذا لجأ الكاظمي إلى القضاء لفتح ملفات التي خلفتها الاحزاب الحاكمة، وهذا سيعد مخالفاً لقواعد اللعبة السياسية غير القابلة للمساس. 

حاول الكاظمي الذي وضع في زاوية لايحسد عليها مواجهة الفصائل وكلف جهاز مكافحة الإرهاب بالتحقيق في الهجمات الصاروخية التي كانت تستهدف المنطقة الخضراء التي تضم وزارات ومقرات دبلوماسية عديدة بما فيها السفارة الاميركية، وقرر اعتقال خلية كتائب حزب الله التي كانت تستعد لإطلاق رشقات صاروخية ضد البعثات الدبلوماسية، انتهت باطلاق سراح جميع افرادها باستثناء واحد فقط. ونقل عن مصادر وصفت بانها مقربة من الكاظمي قولها ان رئيس الحكومة قدم تبريراً لكتائب حزب الله  عن الحادثة بما يشبه الإعتذار. 

لكن بطبيعة الحال وفي عودة إلى أصل أزمة العلاقات الدولية والإقليمية مع العراق، فإن المشكلة الرئيسية هي غياب الإجماع الوطني على تعريف المصالح العليا للدولة، فكل كيان وفصيل سياسي يعرف مصالح الدولة بمنطق يختلف عن بقية الجماعات السياسية، وبالتالي يمكن القول أن العراق لا يملك (لحد الآن) بوصلة للعلاقات الدولية تؤسس لسياسات خارجية عراقية واضحة المعالم والأهداف والأدوات.

إن قواعد اللعبة التي حكمت المشهد السياسي في العراق، والتي صاغها فواعل العملية السياسية منذ بدئها عام 2003، تهدد كل من يحاول العبث بها أو تغييرها، إلا بقبول ممن صاغها من أقطاب “الدولة العميقة”. إن الوضع في لعراق ما زال صعباً وفي غاية التعقيد، وليست هنالك آفاق حقيقية لتغييره وإصلاحه، مما يتطلب إعادة صياغة جذرية للمعادلة السياسية-الأمنية القائمة حالياً، وأول الخطوات الضرورية للحل الجذري، هي محاولة تحجيم دور وتأثير الاحزاب الاسلاموية.

لقد خطط من استولى على السلطة في العراق ان لايكون فيه نظاماً راسخاً وقوياً والدولة ظلامية غير ثابتة وغير مستقرة سياسيا واقتصاديا، مما جعل مفهوم الدولة معلول كانها مرض في جسد العراق ، وهو هيمنة  مافيات وعصابات وليس دولة بمعناها المعروف.
ومنذ عام 2005، تحديداً مع تسلم الأحزاب المتنفذة السلطة نشأ مفهوم اخر للدولة الفاسدة لتسهيل عمليات النهب والسلب لسد عطشهم وجوعهم واحتياجهم عبر التهريب او الاختلاس، مما سهل عملية دخول الأحزاب الأخرى بنفس الطريقة لتدمير الدولة ، والسيطرة على اغلب الوزارات لا سيما المرتبطة بوزارة الداخلية، من دوائر الجوازات والجنسية والإقامة. وتحوّل الموظفون فيها إلى أصحاب أموال طائلة من جراء المساومات والرشى التي يفرضونها على المواطنين، فضلاً عن بيع وشراء التعيينات في الهيئات الأمنية وأبرزها مديرية الأمن الوطني.

ويؤكد بعض المتابعين والقربين من السلطة بأن “75 بالمائة من أمور الدولة والعراقيين تدار عبر الدولة المظلمة، بواسطة شخصيات وعصابات وضعتها الأحزاب داخل المؤسسات الرسمية، وهذه القوى الخفية تمتلك الدعم السياسي والغطاء القانوني، كونها تعتمد على موظفين حقيقيين في الدولة العراقية، إلا أن أعمالهم كلها لمصالحهم ومصالح أحزابهم.
الفساد الكبير في الصفقات الكثيرة المتعلقة بالأسلحة والنفط والتي تتم بين العراق ودول أخرى، فهي تمرّ أولاً على الأحزاب عبر بيادقها في الوزارات، وبعد دراسة الملفات التي من المفترض أن يناقشها الوزير المختص، ترسل الأحزاب ملاحظاتها إلى الوزارات لتكون جزءاً من المباحثات، التي يمكنها تدمير اقتصاد البلد وجعلة اقتصادا مكشوفا للسارقين والفاسدين .

ايران كانت وماتزال وستبقى عامل كبير في تشكيل منظومة الحكم في العراق بفضل قوى سياسية مرتبطة ببعض الأحزاب الموالية لها، وبعض الجماعات المسلحة التي تعمل على تذليل الصعوبات التي تواجه بعض الكيانات السياسية. كما يسيطر موظفون بصيغة مدراء ووكلاء وزراء ومستشارين، على تمرير القرارات داخل إدارات الدولة. وقد تعلو صلاحيات بعض الموظفين العراقيين في المؤسسات الحكومية الصغيرة على صلاحية وزراء في الحكومة. ويعمل جنود الدولة الظلام في كل مفاصل الدولة العراقية على ترتيب مصالحها أولاً وأخيرا .
الميليشيات من خلال ممارساتها تؤكد كل يوم بأنها فوق الحكومة وفوق الوطن وفوق القانون والدستور ، فهي تكوّن أجهزة رديفة لأجهزة الأمن العراقية وتربطها شكلياً بالمؤسسات الأمنية لتحصل على الغطاء القانوني ، كما تكوّن لافتات حزبية وتشارك في الانتخابات وتزورها وتحصل على مقاعد برلمانية ،وتؤسس شركات ومكاتب اقتصادية وتأخذ حصص من الاستثمارات وحصص من المسثمرين كأتاوات ،كما دخلت المجال الرياضي. كما وتعمل في تجارة النفط والمخدرات والسلاح والمعتقلين والنازحين والآثار وتسيطر على العديد من المنافذ الحدودية مع إيران وتهرب ما تراه مناسباً للطرفين وتساعد إيران في تجاوز العقوبات بتهريب العملة والنفط وحماية الفاسدين الذين يضرون بالاقتصاد العراقي

ان الاحزاب الاسلاموية التي ظلمت العراق واهله منذ 2005تشعر لاول مرة بالغبن والخسارة ورغم الصراخ والتهديد، فأنها ووفقا لما وجهتهم به طهران ستلجأ إلى الطرق السياسية والتحالف مع كتل أخرى قد تغير المعادلة، وتشكل كتلة أكبر أمام هذه النتائج التي صدمت البعض وشكّكت آخرين.

جميع المقالات تعبر عن رأي كتابها ولا تمثل بالضرورة يورو برس عربية

زر الذهاب إلى الأعلى