حامـد الكيـلاني : مريم السناطي والرسائل البغدادية
بعد جدل الملائكة البيض والسود، وامكانية تجميل الأبيض بشيء من الأسود أو تجميل الأسود بشيء من الأبيض، لتكون الاجنحة لائقة بالصداقة والتحليق .. علّقت السيدة مريم السناطي ،الكاتبة والصحفية العراقية المعروفة : دعك من الملائكة ياصديقي .. سأرسل لك اسراب الزاجل الأبيض ، تحمل محبتي، ووصية تقول (أمانة الله عليك) ..بلغ شوقي ولهفتي لبغداد ولقلبي الذي تركتهُ فيها ..
كتبت لها فجرا ً : حط الزاجل بأمان على ضفة النهر في غبشة نهار يشبه وصية مريم !!
وها أنا رغم شمس المغالاة في بغداد ،اهبطُ في البتاويين من جهة شارع السعدون واخطو في الشارع المحاذي لسينما النصر ،متحاشيا ً المرور في الفرع الثاني القريب من سينما بابل ، لعدم الوقوف والانشغال بالاصدقاء الذين سأصادفهم حتما ً، هذا العبور لالقاء التحية وإيصال أمانة مريم ، بيت وآخر ، محل وآخر ، الناس ، الضجيج ، الكلمات ، امرأة على بالكون ، عامل تنظيف ، شرطي ، عامل مطبعة ينقل الورق ، سائق اصلع يبلل قطعة قماش يضعها على رأسه ، طفل يبدو من ملامحه بأنّهُ يرفض التسجيل في المدرسة.. أمه تسحله متوسلة ، الماء سيد اللوحة ، حارس البناية تحت الظل ، القطة تلهث تمشي حذرة بقرب الحائط ، صوت مكائن، رائحة شواء كباب ، محل طرشي ، بجانبه (أبو الفلافل والعمبة) سمعتهُ يصرخ بصانعه : استعجل الصمون الحار ، هلا عمي حامد ..استريح ولو بس اشرب مي بارد .. قلت: شكراً، "عندي وصية دا اسلمها" .
، غادرت بين الفروع، أنا وحقيبتي وجلدي وجلدها ،اوزع وصية مريم ، وانثرها كالبذور في حقلٍ كبير ، رأيت الزواجل تحط اثنين اثنين : لاتفرقها المسافات أو الالوان أو الجوع أو الشوق أو تناهيد قلب ، رأيت الاغاني تنمو في كل بيت وباب وجدار ونداء وناصر حكيم مازال جاراً، يغني بالراض امش بالراض ويعيد بلا ملل ، والطيور الطايرة تملأ بظلالها الملائكية روحا ً توزع للاحبة شعاع الكمر من خلف باب بيت بغدادي ، مع صوت مائدة نزهت ، واحلام وهبي تستعد لاحياء حفل عرس يوم الخميس، وتتمرن على "ها ليله.. ليلة من العمر ..يابيض غنن ياسمر" بالفرح "هليلة"، وجوقة موسيقى شعبية متحمسة ونساء راقصات ، وعرسان في سيارة ،وراقصين شباب، وازياء وحب وأمهات واطفال ، كل ذلك حدث وليس مخيلة ، أنا فقط استعرض لكم صوراً، تتمرد على مصورها ،فتغادر ورق الفوتوغراف، لتحيا في اماكنها ، محلات الفواكه المغسولة كأنها استحمت في نهر دجلة ،وعادت الى سلال خوص ، وموسم التمور، وشهيات الاعياد ،وطقوس الماء واختلاط الاسماء .
، مريم في كل بيت ، وبيتنا فيه مريمات ، رأيت الكثير يا مريم ، تراكضت امامي كائنات هاربة لاتقترب منها الاحزان ، تنزلت اليوم كل السعادة، وتكومت كبركات البيادر في كل زاوية ومنعطف، ولم يتبق في غربال (بيبي مريم أم خالدتنا) إلا نفايات الاحزان التي لامكان لها اليوم في سطور تحت الخطى لقلب مريم المنسي، بتعمدٍ وسبق اصرار على حب مدينة ، يحق لها التبغدد والدلال ، ويحق لرجالها ونسائها ما لا يحق لغيرهم.
ليس كِبراً منها فحسب، لكنها سليلة خيالٍ وشعر وجموح الخيول الطائرة، وبساط سحري، ينقلنا الى حلم كان حقيقة، تعاود سيرتها الأولى .. مريم ، سلّمتُ برفقة قلبك والزواجل على سيدات المدينة اللواتي لهن الحق جميعاً، بتسمية سيدات البلاط ،لكوكب الارض ، لصبرهن ورفعة رؤوسهن وطيبتهن، رغم المحن الكبرى .. لن ازيد وأنا اصل الى مكان عملي من جهة شارع النضال ، استحق الآن قدح ماء بارد ،ولقلبك سيدتي ، اطمئني.. بغداد بكل محلاتها وازقتها وشوارعها ،ومع كل تهويمات عشوائيات الخوف والرعب، لكنها كما احب ان اصفها الآن .. مخاطر كبرى ، اذاً هناك اقدام ٌهائل ، متغيرات كبرى .. صدقيني أيتها السيدة بحكمة الصحائف ، هذه الالوان القلقة على وجه المدينة والبلاد ،عنوان لمانشيت امتعاض الأسى والألم، واستسلامه تحت بسالة وفيض إنسانيةٍ، جرفت كل املاح الارض وبزلتها بإيمانها بأن الغد لها ،ولأنها عملية خلق .. بغداد لن تهرب ، قلبنا فيها وزمنها الآن، إعادة لبرمجة ترقب، لتتخلص من التشوهات والتحويرات التي حدثت في النظام الإنساني العام .
سيدتي .. أنت ِ تشبهين بغداد ، وأنا اكتب لها أم عنها أم عنك أم عن اصدقائنا أم ارواحنا أم سنوات اعمارنا أم اشواقنا أم رسائلنا ، أم ذكرياتنا بما فيها ، أم عن محلاتها وذائقة العيش في كل ثنياتها وشخصياتها ، أم عن بساطتها وكرمها وايوائها للغريب التائه ، أم اخائها وتعايش أهلها ، أم انفتاحها وتحضرها ، أم سيداتها واناقتهن أم رجالها الامراء ، أم جهد مبدعيها وفنانيها ومعلميها وعقولها ..
لا اعرف كيف اختم سيدتي .. لكن مشهداً غريباً يفاجئني بتدافع كل خيول فائق حسن من لوحاته بعنف، وتجمّعها امام نصب جواد سليم ، قادمة من كل صوب تصهل للحرية ، يفتح لها بطلٌ مغوار كل ابواب الحظائر لتحلق اسراب الزاجل ، تزداد انحناءة الام لتحمي وليدها الجميل الذي لن يكون مجرد ذكرى عابرة .. بغداد اعتق رسائل المعرفة والحب، وقابله مأذونة مجازة من التاريخ لكل فكرة وتجربة صداقة مع الحياة ..
مريم هل وفيّت ؟!