حامد الكيلاني يكتب : شاعر العرب عبد الرزاق عبد الواحد في ذمة الحياة
شاعر بحجم العراق لا يمكن ان يختصر بمقال، وقامة عراقية شامخة ، مثل عبد الرزاق عبد الواحد لا يمكن ان يحتويها وصف او تستوعبها كلمات، وهو الذي تنسل الحروف بين انامله لترسم صورة لم تألفها العين، او يستشعرها القلب من قبل.
لكن الكاتب حامد الكيلاني ، رسم لوحة من كلمات ، مناديا العراق الذي احبه عبد الرزاق عبد الواحد ، ان شاعر العرب الكبير في ذمة الحياة .. في مقاله الذي تنفرد وكالة الصحافة الاوروبية بنشره هنا مع آخر الصور التي التقطتها عدسته للراحل الكبير في بيته في عمان قبل ان يذهب الى رحلته الاخيرة الى باريس.
عبد الرزاق عبد الواحد في ذمة الحياة
حامد الكيلاني
قبل عام تقريباً من الآن، التقيت بالشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في بيته في العاصمة الاردنية عمان، وكتبت عنه، ولا أجد ما تجود به روحي ووجدان حروفي أفضل من دخولي الى مخيلته، سكنه، حياته الخاصة، غرفته، كتبه، وأم خالدِهِ، تنوء كلها تحت مقلتيه كلما ذكر العراق، فتساقطٌ دمعاً لا كابح له ولا مبرر لديه لشد جماح خيول الأسى وهي تسرج قلوبها الى وطن أمسى بعيداً، ولا واسطة نقل سريعة تعيد حلم أيامه الجميلة، إلا خفقة حنين من جناح طائر يضرب في صدره وصدورنا بلا رحمة، بحثاً عن انعتاق، مما أصاب العراق من خطب عظيم.
ارتحل شاعر العراق والعرب عبد الرزاق عبد الواحد، وعلى الرغم من اشارات هنا وهناك واشادات لعالميته، لكننا نعترف اننا لا نسوق مبدعينا بما يليق بهم ليكونوا فنارات ضوء مضافة لنتاج المبدعين في ليل أرضٍ اوشكت ان تصرخ من هول ما قاسته انسانيتنا بسبب انتصار الكراسي على جوهر حياة الشعوب وحتى حياة الحكام أنفسهم.
موت شاعر بمكانة عبدالرزاق، حياة للقصائد، خلود لسيل الكلمات في جفاف ويباس وديان الأمل، انعاش لخط مؤشر نبض الانسانية في صالة الحروب والموت المجاني واللامبالاة بمصير الكائن الأسمى. حياته، مماته، قصائده، عشرات الكتب في مختلف أغراض الشعر، مثار جدل حتماً، وهذه وظيفة الشعر ومهنة الحفريات والنبش في مسامات جلد من يتلقى ومن يقرأ ليعيد حراثة أرضه ويمنحها قدرة زراعة بذور محسنة لانتاج فكر متجدد قابل للحياة والتعاطي والسير برفقتها دون تعثر يكلف الأجيال المتتابعة خسائر كبيرة لا يمكن السيطرة على نزيف أيامها.
يختلف الناس على مواقف الشاعر وقربه من سلطة زمانه أو بعده عنها، وهذا ليس جديداً في تاريخنا وتأريخ الشعوب، ولمعرفتي الشخصية بالشاعر في سنته الأخيرة أي بعد كل نتاجه ومواقفه، ربما ما يسعفني لنقلٍ غير منحاز، إنما عن لسانه، هو، أي الشاعر مع وطنه ومحنته الكبرى، ويكفيني ان استشهد بمعظم العراقيين من الرجال والنساء وبمختلف الأعمار، ما أن يذكر العراق حتى تتطافر عيونهم لوعة ودمعاً، وهذا ما لا يجوز ابداً الحاقه بخصائص الأحتيال أو التزلف للمقابل، قلب عبدالرزاق وروحه، عراقية أصيلة ومتجذرة وأصابها من الحسرة والألم ما أصاب كل المواطنين العراقيين.
علاقته بالحاكم والمقصود هنا طبعاً الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، لا يخفيها سابقاً ولا في أي من مجالسه، انه يحبه ويعتبره صديقاً يحترمه ويجله شاعراً وانساناً ولا ينسى ان يذكر محدثيه ان الرئيس في يوم ما أشعل له سيجارته، وعندما استكثرها الشاعر على نفسه قال له الرئيس: انت ضيفي.
بعد احتلال العراق واعدام الرئيس بالطريقة والتوقيت المعروف، وفر للشاعر قناعات راسخة بمجد مقاومة المحتلين وهذا حق طبيعي لا يتنازل عنه إلا خائن، وإلا ماذا تعني الخيانة في سياق المصطلح او التعريف او الوصف؟.
كَتَبَ للحرب ضد العدوان الايراني، وربما في منجزه من الأهازيج والأغنيات الوطنية وقصائده ودواوينه ما يحرض الكثيرين عليه، لأن السلطة آلت بعد الإحتلال الى الأحزاب الحاكمة وميليشياتها وهم اتباع العدو القديم، الذين كانوا يقاتلون في زمن الحرب مع العدو ضد وطنهم الأم.
علاقته بالعراقيين وأصدقاءه ومحبيه أكثر وقعاً من علاقته بابنائه، وهذا ما جعله يستقر في دمشق ثم عمان، لأنه يعشق أهل بلاده وناسه وعارفي أدبه وشعره، وليكون قريباً من جغرافية بلاده ولغته العربية التي يعشقها كحبيبة، ومن محاذير مجالسته ان تخطأ في صرف ونحو، خاصة عندما تقرأ له، لأن له أذنين مدربتين تماماً على عدم نشوزات اللغة.
لا يأتي على ذكر كائن من يكون، لا أقول بالسوء لكن بالنقد حتى الموضوعي منه، إلا فيما يتعلق بالشعراء وشعرهم، لأن ذلك يستفزه، فهو على اطلاع بشخصياتهم وتاريخهم وإجادتهم لشعرهم، فنجده ينتقد عبدالوهاب البياتي ولا يخفي مواقفه ويعتبرها عبدالرزاق حديثاً عن سلوك غير مفترض لمن غزاه الشعر وإصطفاه بالموهبة.
عاش سنواته الأخيرة، لا ينام إلا بصعوبة، تؤرقه حالة العراق ومصير العراقيين، ويحزن جداً لنسيان بيت شعر حتى لو لم يكن من شعره، يحفظ الآلاف من بيوت الشعر العربي، خاصة للمتنبي، ويستذكر مجد شعره ويستشهد بها.
كتب كثيراً، وأنجز الكتاب المقدس للصابئة المندائيين “كنزا ربا” باللغة العربية، وهو سفر خالد في تاريخهم. يتغنى بأمه التي ارضعته موسيقى الشعر في طفولته بمدينة العمارة العراقية لأنها مثل كل امهاتنا تناغي إبنها بألحان الشجن لينام، وتحفظ الأمثال وأبيات الشعر ولصوتها الجميل الهام حب الايقاع والأوزان، وفي كل بحورها كتب. استغربت فعلاً عندما التقيته، كيف ينام هذا المعذب بعيداً عن بلاده؟ اليوم لا غرابة في مجمل الاختلاف عليه، لكن ما أتوقف عنده، ان من يفترض بهم أن يكونوا صناع الأمل من أدباء وفنانيين، يتقاسمون خبز الكراهية، فلماذا اذاً نتحامل على تصرفات الهوام من الناس؟!. لا أدري لماذا خطر ببالي الآن الشاعر الانجليزي اللورد بايرون، عندما كان يقرأ الشعر، تذوب النساء الرقيقات مثل قطرات المطر على زجاج نافذة مطلة على عالم سارح في الخيال والحب واللوعة والغياب..
بعد حين سيرحل الجميع، ويهدأ لغط الصالات الجميلة، والمدنسة أيضاً. لا أحب الرثاء، العزاء في الحياة، والإبداع هو ما يتبقى.
اخر الصور التي ألتقطت للفقيد الكبير عبد الرزاق عبد الواحد في عمان قبل رحلته الاخيرة
عبد الرزاق عبد الواحد يهدي ديوانه للكاتب حامد الكيلاني قبيل سفره الى باريس
مكتب الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في منزله مع بعض قصائده
كرسيه الذي اعتاد الجلوس عليه في منزله .. بات فارغا يفتقد غيابه
وكان الكاتب والفنان والاديب حامد الكيلاني قد نشر مقالا سابقا قبل عام من الان عن الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد نعيد نشره هنا لاهميته وقيمته الادبية التي توثق حياة ابرز شعراء العصر الحديث في العالم العربي.
العراق قبل ان نمضي
وانت تقف أمام شقة عبدالرزاق عبدالواحد منتظراً فتح الباب، تأكد ان الشعر سيندلق كالماء على وجهك، وما أكثر طقوس الماء في محرابنا، وقبل الدخول تختصر القطرة بحراً، وحبة القمح حقلاً، وذرة الرمل ساحلاً، والضوء الشاحب في الممر قمراً.
وبيت في قصيدة يختصر مجلداً من الاشعار، هكذا رأيت الرجل ذو الـ(85) عاماً، معه تتجرد من زوائد اللغة، تذهب اليه مجرداً، هكذا من أقصى اليمين الى أقصى اليسار من دون أن تقحم نفسك في توقفات وفواصل، تأخذه بغتة كحفنة من تراب الأرض، فيها ما يستر خجلنا من البحث عن أسباب العناصر أو موجباتها وما يلفها من غموض وأحاجي، وما دمت قد تناوشت أحشاء السطور بالألغاز فلا أسرار اذا رأيت الرجل العنكبوت يتقافز فوق رؤوسنا ملتصقاً بالجدران مرة، وثانية ينطوي مع أنفاس كتاب، هكذا عبدالرزاق عبدالواحد، تهيأ لي أنه كتاب بين غلافي رئة تتنفس، تجاورُ جلاسها وتختلس مفردة لم يتجرأ أحد من قبله أن يُلبِسها رداء المأساة وينزلها عن عرشها الملكي ويطوف بها غريبة في الطرقات، شعثاء، متربة، مسبية، فكإنها سلاسل دمع تهبط بلا أستئذان كجناح طائر القطرس المَهيب، مدمى، لاهثاً، مُعَنَفاً ركبتيه بلا حذر، في كل لثغة عراق، وفي كل ذبحة دمعة، وحده حزن يتمطى على أديم العراق، وخلفه الغرباء يغمضون أبصارهم، ليتجاوز احتضار النعاس على بوابة فجر لقصيدة لم يكتبها بعد. يالهذا الشاعر الذي يتكئ على حجاب حاجزه، فأذا ذكر العراق قفز الحدود وصال وجال ومال وهوى وأستنطق الحجر الأصم وأسرج خيله وتناخى وتحامل على سنيه أوجعها توبيخاً وقدحا ووخزاً فيستشيط غيظاً مسنداً قامته إذ يقول العراق ويكاد من فرط حبه والغضب أن يقتفي أثر عينيه ويتبعه قلبه وشعبه.. عبدالرزاق عبدالواحد شاعر يتدفق دمعه من لسانه.
الشاعر الرافديني
مالا يقوله الشاعر الرافديني عبدالرزاق عبدالواحد، تتصفحه العيون في حضرته أراه مستبسلاً في الحيرة على العراق وما أصابه، فالغيظ لديه نواح لا يستره، دمه يشي بما خلف جلده فينزّ قصائد وقلائد لجيد أمرأة بابلية وقصائد أقراطاً لملكة آشورية، وقصائد للرعاة على سفوح التاريخ، وقصائد للأنهار والغابات، وللبساتين، للصبا، للحب على مدارج الأسى، للسلم، للحرب، للمقاتلين والمحاربين والمقاومين على جبهات الحياة وخلف متاريس الحروب، للعشاق، لأنطواء خبز الصدقات بخبز الوطن، يا عبدالرزاق، كم قلباً بين جنبيك وكم لساناً في فمك؟
كيف ينام؟
وأنا أسترجع، كيف يخون الأنسان بلاده؟ رأيت عبدالرزاق عبدالواحد لا ينام فرددت: كيف ينام أنسان خارج بلاده؟
عبدالرزاق العراق
الكتب في غرفته الخاصة مبعثرة، وسريره الصغير في غرفته الصغيرة وجسده الصغير في روحه الكبيرة، كل ما يكتب، كل ما يقرأ، كل ما يهدي، كل ما يلقي، كل ما يبكي، هو العراق، لم أشاهد في غرفته سوى العراق!!
أم خالد
على حائط في سكنه القلق، صورة له تجمعه مع أُم أجمل قصائد الحب والغزل في الشعر العربي والعالمي، أُم خالد وضعت أطراف أصابع يدها اليسرى على كتفه فكتب فيها لقاء إتكاء كل عمرها على كتفه، قصائدً تشبه، الى حد بعيد، اندلاع الحب قادماً من الأفق في ليل الأبدية ضاجاً بالحياة منشداً لها أجمل ما تقع عليه عين
ويهفو له قلب..
كل شيء لديها ندي
حين لامستها أورقت في يدي!
ما اوجع أن نكتب شعراً!
منذ تفتحت أولى الكلمات في القلب وأنا أتعجب كيف لا يقضي شاعرٌ مثل عبدالرزاق عبدالواحد نحبه في بيت شعر ومعنى له صفات الإجرام والتربص بقلب يبتهل الى خالقه، أن يكمل القصيدة، ثم ليفعل الله ما يشاء..
أتعجب وأنا اطل على عالم هذا الكائن الذي يتوسد الشعر ويتغمدهُ وينضحهُ في السر وفي العلن، يأكله الشعر، يمضُغُه، يتفننُ في النيل من جسده وصحته، ولا أبالغ إذ أتهم القصائد بملاحقة الشاعر لتنجو إحداها من العدم، وأخرى وبلا توقف، كما المطر من قسوته، ترتوي الأرض وتحيا.
العراق .. قبل أن نمضي
التقيته، لكرمه أكثر من مرة، فأيقنت لماذا قال جبران (إن الدقائق التي جمعتنا هي أعظم من الأجيال) الآن أقولها لشاعرنا العراقي الكوني عبدالرزاق عبدالواحد، وشعرت به يقولها لمن في قلبه وعينيه، لكن الحقيقة ان البلبل الغريد يَبكي ويُبكي، ومن بكائه تتصاعد روح وطن عظيم تمد يدها لتلقي على كتفه أوزار حبٍ ولوعة تنوء الضلوع تحتها باحتمال الرزايا، والوقوف، كل يوم جديد، على أرجوحة تأخذنا.. أعلى.. أعلى من العويل، الى شيء جميل نحبه قبل أن نمضي!!.
حامد الكيلاني
وكالة الصحافة الاوروبية بالعربية – الحقوق محفوظة